العدوان الإسرائيلي على لبنان- تهديد للإنسانية وتقويض للنظام العالمي

المؤلف: د. ياسين أقطاي10.08.2025
العدوان الإسرائيلي على لبنان- تهديد للإنسانية وتقويض للنظام العالمي

في مستهل شهر أكتوبر من عام 2024، يشهد جنوب لبنان توغلاً برياً للقوات الإسرائيلية، مما يفتح صفحة جديدة في سجل التصعيدات المتواصلة في المنطقة. يبدو أن عجلة الحرب ماضية في دورانها دون بوادر تلوح في الأفق لنهاية قريبة. هذا الاجتياح لا يمثل مجرد تحرك تكتيكي ضمن سلسلة من النزاعات المسلحة المتكررة، بل يعكس تصميماً على ترسيخ حقيقة مؤلمة: السلام في هذه البقعة الملتهبة من الشرق الأوسط لا يزال حلماً بعيد المنال.

يكمن جوهر المشكلة في أن هذه التحركات العسكرية لا تثمر إلا المزيد من العنف والضغينة، وتكرّس ذات السيناريوهات العقيمة التي لم تُجدِ نفعاً في تحقيق أي تقدم نحو السلام المنشود. ومع إصرار الأطراف المتنازعة على التمسك بالحلول العسكرية، يزداد السؤال إلحاحاً: إلى متى سيظل لبنان ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، وضحية لمخططات الهيمنة والنفوذ؟

ينشغل الجميع الآن بالتساؤل عن المدى الذي ستصل إليه العدوانية الإسرائيلية، ومن سيضع لها حداً. إلى أي مدى يمكن لعدوانها أن يتفاقم بهذه الوتيرة المتسارعة، مدعيةً ذرائع واهية، كان آخرها حادثة اغتيال السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله؟

إسرائيل، في حقيقة الأمر، أسيرة في قبضة الولايات المتحدة، التي تخفف من إحكامها بما يخدم مصالحها الذاتية. إذن، بيت القصيد ليس في جموح إسرائيل، بل في الجهة التي تتحكم بزمام الأمور. والآن، وبحجة حزب الله، يوضع لبنان على قائمة الإبادة. ولكن قبل التسرع في إصدار الأحكام، يجب التوقف قليلاً للتأمل ملياً في أبعاد هذا المشهد الآخذ في التدهور.

يكمن السبب الجوهري وراء عدم رد حزب الله وإيران حتى الآن بالقوة التي كانت متوقعة، في عدم قدرة حزب الله على تحمل المزيد من الخسائر الفادحة. فعلى الرغم من العداء الصريح والفظيع تجاه إسرائيل، ما انفك حزب الله يتجنب الانجرار إلى صراع عسكري مباشر. فالحزب لا يمثل الدولة اللبنانية بأكملها، وأي حرب يخوضها بمفرده ستنعكس تداعياتها السلبية على جميع أرجاء البلاد.

هذا التردد، الذي قد يُنظر إليه بادئ الأمر كمسؤولية وطنية للحفاظ على الأمن والاستقرار في لبنان، قد تحول بمرور الوقت إلى حالة من الفتور تدعو إلى الاستغراب والدهشة. ففي الوقت الذي تشن فيه إسرائيل الهجمات الشرسة وتزهق الأرواح، وتستهدف القيادات العليا في الحزب، وصولاً إلى اغتيال شخصية بارزة كحسن نصر الله، يبدو حزب الله وإيران وكأنهما لا يزالان يخشيان تكبد المزيد من الخسائر، مترددين في الرد بالطريقة المناسبة. يتصرف الطرفان وكأنهما يلتزمان بجلد وصبر غير مسبوقين، مما يثير تساؤلات جوهرية: ما الذي تبقى لحزب الله ليخسره بعد كل هذه الخسائر الموجعة؟

في خضم ترقب الجميع لرد فعل حزب الله على الاعتداءات الإسرائيلية المتصاعدة، يمضي الاحتلال قدماً في مخططه التدميري تجاه لبنان، وتتعاظم التكهنات بشأن احتمال توسيع نطاق هذه العمليات لتشمل الأراضي السورية. ومع اقتراب الصراع من الحدود السورية، يبرز سؤال مصيري حول موقف إيران وروسيا، اللتين تربطهما اتفاقيات دفاعية مع النظام السوري. ففي الواقع، قد تشكل الجبهتان اللبنانية والسورية فرصة سانحة للغرب، وخاصة أوروبا وأمريكا، للخروج من عنق الزجاجة الذي تعيشه أوكرانيا. وتشير التطورات الراهنة إلى أن هذا السيناريو قد يكون قاب قوسين أو أدنى من التحقق.

الأمر الذي لا يخفى على أحد هو أن ما يدفع إسرائيل إلى هذا العدوان ليس مجرد سعيها لتحقيق الأمن، بل تحركاتها تجاوزت حدود التفسير المنطقي ضمن إطار العلاقات الدولية المتعارف عليها. لقد تخطت إسرائيل أنماط سلوك الدول التقليدية، وتحولت إلى أداة للإرهاب والترهيب. ما تقوم به الآن ليس من فعل الدول المسؤولة، بل هو إرهاب ممنهج، يدفع اليهود الذين تم تجميعهم من شتى بقاع العالم نحو مغامرة غير أخلاقية وغير رشيدة، ستجعلهم في نهاية المطاف من ضحاياها. إنه مشروع مدمر للآخرين، كما أنه مدمر لذاته ولليهود أنفسهم، وكأنه يسطر أسوأ صفحات تاريخهم المأساوي.

إسرائيل اليوم تمثل شذوذاً خطيراً في مفاهيم العلاقات الدولية والقانون والنظام العالميين. هذا الشذوذ انبثق من عصيانها وتمرّدها على جميع القواعد والأعراف الدولية، وهو تمرد تتلقى الدعم فيه من قوى عالمية تستخدمه بشكل استبدادي ومتعجرف، دون أدنى رادع أو وازع.

إن القدرة على التصرف ككائن استثنائي يعكس في جوهره مظهراً من مظاهر الهيمنة المتأصلة في منطق القوة، حيث تتجسد الهيمنة في القدرة على التحرك بحرية خارج حدود القواعد والمبادئ المتعارف عليها. ومع ذلك، لا يمكن لأي هيمنة أن تكتب لها الاستدامة والبقاء إذا اعتمدت بشكل دائم على الاستثناءات. فالولايات المتحدة والنظام العالمي الحالي، اللذان وفرا لإسرائيل هذا الحيز الاستثنائي دون قيود أو ضوابط، يقتربان الآن من مواجهة حدودهما المحتومة، وربما نهايتهما الوشيكة.

العدوانية المتزايدة التي تشنها إسرائيل ضد لبنان لن تتوقف عند هذا الحد، بل يبدو جلياً أن هذا الاستثناء الذي تمارسه قد أصبح يشكل تهديداً خطيراً للبشرية جمعاء. إسرائيل اليوم تمثل خطراً شاملاً على الإنسانية، ففي عالم يمنح هذه المساحة الشاسعة لتفسير ديني صهيوني متشدد، لن يكون هناك أحد بمأمن من هذا التعصب المتنامي.

لقد فقد النظام العالمي الذي أُنشئ لرعاية هذا التعصب الأعمى كل ما كان يدعيه سابقاً من قيم التنوير والديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان والعقلانية. فقد تم التضحية بجميع هذه القيم النبيلة، التي استغرقت البشرية قروناً من الزمن لتطويرها وترسيخها، على مذبح استثنائية إسرائيل.

في هذا السياق العصيب، لم يعد يحق للعالم أن يدعي بأنه يحمل شعلة الديمقراطية أو حقوق الإنسان، فقد تم التخلي عن هذه القيم الأساسية لصالح استثناءات تتلقى الدعم الكامل من قوى دولية نافذة ومهيمنة. كيف لنا أن نتحدث عن الديمقراطية في حين يتم تجاهل حقوق الفلسطينيين المشروعة وحقهم الأصيل في تقرير مصيرهم؟ وكيف لنا أن ندعي الدفاع عن حقوق الإنسان بينما تستمر انتهاكات إسرائيل المروعة بحق المدنيين الأبرياء دون أي مساءلة أو عقاب؟ إن هذا التناقض الصارخ بين القيم المعلنة والواقع الملموس يكشف زيف الادعاءات الغربية بالدفاع عن حقوق الإنسان.

هذا الوضع المختل وغير العادل يتطلب إعادة تفكير شاملة في النظام العالمي برمّته. فإذا كانت القوى الكبرى ترغب حقاً في الحفاظ على استقرار العالم وتعزيز القيم الإنسانية النبيلة، فعليها أن تعيد النظر في دعمها الأعمى للاستثناءات التي تهدد الأسس التي قام عليها النظام الدولي. يجب أن تكون هناك عودة جادة إلى القيم الرفيعة التي تم تطويرها بعد قرون مديدة من الحروب والصراعات الدامية؛ قيم العدالة والمساواة في الحقوق بين جميع الشعوب بلا استثناء.

ختاماً، لا يمكن للعالم أن يستمر في هذا المسار المحفوف بالمخاطر، والذي يدعم الاستثناءات على حساب القيم العالمية والإنسانية. لقد بات من البديهي أن استمرار دعم النظام العالمي لاستثنائية إسرائيل يقوض كل ما حققته البشرية من تقدم حضاري وقانوني عبر العصور.

إن استعادة القيم الحقيقية التي تمثل الركيزة الأساسية لعالم أكثر عدلاً واستقراراً وازدهاراً يتطلب موقفاً حازماً لا هوادة فيه في مواجهة هذه السياسات الاستثنائية التي تهدد سلامة الإنسانية جمعاء وتهدد مستقبل أجيالنا القادمة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة